كارل ريموند بوبر (28 يوليو 1902 في فينا - 17 سبتمبر 1994 في لندن) فيلسوف إنكليزي نمساوي المولد. متخصص في فلسفة العلوم. عمل مدرسا في كلية لندن للاقتصاد. يعتبر بوبر أحد أهم واغزر المؤلفين في فلسفة العلم في القرن العشرين كما كتب بشكل موسع عن الفلسفة الاجتماعية والسياسية.
والداه يهوديان بالأصل لكنهما تحولا للديانة المسيحية، إلا أن بوبر يصف نفسه بالاأدري. درس الرياضيات، التاريخ، علم النفس، الفيزياء، الموسيقى، الفلسفة وعلوم التربية. عام 1928 حصل على درجة الدكتوراة في مجال مناهج علم النفس الإدراكي. 1930 تزوج، وبدأ كتابة أول أعماله، الذي نُشر في صورة مختصرة بعنوان "منطق البحث" 1934 وفي طبعة كاملة عام 1979 بعنوان "المشكلتان الرئيستان في النظرية المعرفية". 1937 هاجر إلى نيوزيلندا حيث قام بالتدريس في عدة جامعات هناك، وألف كتاب "المجتمع المفتوح وأعدائه" 1945، والذي اكتسب من خلاله شهرة عالمية ككاتب سياسي. أهم سمة تميز أعماله الفلسفية هي البحث عن معيار صادق للعقلانية العلمية. ما بين عامي 1949 ـ 1969 عمل أستاذاً للمنطق والمناهج العلمية بجامعة لندن. حصل في عام 1965 على لقب "سير". كتبت عنه الدكتورة يمنى طريف الخولي وهي أول من قدمه للعالم العربي
[عدل]حياته
ولد كارل بوبر لأسرة نمساوية خليقة بأن تنجب فيلسوفاً , الأب حاصل على درجة الدكتوراة وكذا أخواه , وكان أستاذاً للقانون في جامعة فينا ومحامياً , ويبدو أنه كان مثقفاً ثقافة رصينة , حتى إننا لا نجد - كما يخبر كارل بوبر نفسه - حجرة واحدة في منزله غير مكتظة بالمراجع الكبرى وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني باستثناء حجرة المعيشة كانت بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموتسارت وبيتهوڤن... وبوبر يعتز كثيرا بأنه يمتلك نسخة من طبعة القرن السابع عشر لكتاب لجاليليو ونسخة من طبعة القرن الثامن عشر لكتاب إيمانويل كانط فيلسوفه الأثير. وقد كان الأب حريصا على تنشئة ابنه , ومنذ نعومة أظفار الصبي كارل بوبر ووالده يحفزه على قراءة الكتب الفلسفية الكلاسيكية ويناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهية والجوهر. وحينما تعييه حذلقة الصبي يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة. أما عن أمه جيني ني شيف , جيني بوبر , فهي تنتمي إلى أسرة تسري في دمائها الموهبة الموسيقية. كانت هي وشقيقاتها شأن غالبية مواطني ڤيينا عاصمة الألحان وكعبة الموسيقى عازفات ماهرات على البيانو.أختها الكبرى وأبناؤها الثلاثة عازفون محترفون. وقد لعبت الموسيقى دورا كبيرا في حياة الابن بوبر , فهو أيضا عازف على البيانو , ومتذوق عميق لها , ا ساعد في صقل شخصيته وإرهاف مشاعره. ويخبرنا في تفصيلات مسهبة كيف أن الموسيقى الأوروبية البوليفونية كانت ملهمة له ببعض توجهاته الفكرية. ولم يسلم بوبر الروح إلا بعد أن حقق حلم حياته وقام بتأليف قطعة موسيقية وهو في التسعين من عمره!. وحينما شب عن الطوق ورث عن أبيه العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المهملين والأيتام , ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها عام 1919 - 1920 وهذا العام حاسم في فلسفته , ترك منزل والديه على الرغم من توسلاتهما كي يستقل بنفسه وكي لا يشكل عبئا عليهما. فقد أصبح أبوه شيخا جاوز الستين فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب , وأقام بوبر في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور , عمل بغير أجر في عيادة النفساني ألفرد آدلر , وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كتدريس أو تدريب طلبة أمريكيين أو كمساعد نجار... هذا النجار أثر كثيرا في شخصية بوبر ولكن ترك في نفسه رد فعل عكسيا عنيفا حين كان بوبر يراه دائما يؤكد أنه يعرف كل شيء وأنه على صواب ولا يخطئ أبدا. فأصبحت احتمالية الخطأ الكامنة في كل موقف هي جذع الفلسفة البوبرية. لم يكن بوبر يدخن أو يحتسي خمرا , كان يأكل قليلا ويرتدي ثيابا متواضعة. المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها آنذاك هي التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية وكانت التذاكر رخيصة لأنه كان يستمع واقفا. بخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام والموسيقى كان اهتمام بوبر الثالث في يفاعته هو الفلسفات السياسية اليسارية. أمضى إبان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسيا , لكنه انقلب بحماسة إلى الاشتراكية الديموقراطية... وأصبح في النهاية داعية مايمكن أن نسميه: ليبرالية معدلة , ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين , التي اقترنت باسم بوبر.
[عدل]تعليمه
التحق بوبر بجامعة ڤيينا العام 1918 , حضر مختلف المحاضرات: تاريخ الموسيقى والأدب وعلم النفس والفيزياء... بل حتى العلوم الطبية. وسرعان ما ترك هذا وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظرية والرياضة البحتة... إذ كان يرى تلك المحاضرات (رائعة بحق) . وفي العام 1922 قيد طالبا منتظما بالجامعة , فأمضى عام للحصول على إجازة للعمل في المدارس الابتدائية , حصل عليها إبان عمله كنجار وواصل دراساته حتى حصل على إجازة التدريس في المدارس الثانوية. ظل بوبر لآخر يوم في حياته على اعتقاد راسخ بأن تربية النشء والتعليم في كل صورها أقدس مهمة عرفتها البشرية. حصل على إجازته تلك من معهد تربوي أنشئ حديثا , وفيه تعرف بوبر على محبوبته التي أصبحت زوجته حتى آخر العمر. وما فتئ بوبر في كل موضع ينوه بفضلها وفضل حبها العظيم عليه , وبعد تخرجه استأنف دراساته حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ڤيينا العام 1922 .
[عدل]فلسفته
سارت فلسفة العلم بشكل عام في إطار منطق تبرير المعرفة العلمية على تحديد مبررات تميزها ووثوقها ومصداقيتها ونجاحها في أداء المهام المنوطة بالعلم , سواء استند هذا التبرير إلى معطيات التحقق التجريبي الاستقرائية أو إلى معايير البساطة والمواءمة الأداتية , وإن مالت كفة الطرح الأول الوضعي , في كلتا الحالين ثمة تبرير للنسق العلمي كمنجز راهن وراسخ يمكن أن يستوعب تطورات أبعد , من هنا تمثل فلسفة كارل بوبر , نقطة تحول حاسمة , مادامت فلسفة العلم قد انتقلت معها من منطق التبرير إلى منطق الكشف العلمي والمعالجة المنهجية له , على أساس من قابليته المستمرة للاختبار التجريبي والتكذيب , لتعيين الخطأ كي يحل محله يوما ما كشف أفضل وأكفأ وأقرب إلى الصدق , وسوف نرى أن الكشف علمي بقدر ما يكون قابلا للتكذيب , بقدر ما يفتح طريقا إلى تقدم أبعد. فليس منطق الكشف العلمي منطق لبنة جديدة تضاف إلى صرح العلم , بقدر ما هو منطق فتح جديد للتقدم العلمي , إنه فلسفة التقدم المستمر , وكان لهذا تأثيره الكبير في التطورات اللاحقة للوضعية المنطقية والأداتية ذواتيهما. تستند فلسفة بوبر بأسرها إلى أن الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي هي إمكان تكذيب عباراته , هي قابليته المستمرة للمواجهة مع الواقع والوقائع , للنقد والمراجعة واكتشاف الأخطاء وبالتالي التصويب والاقتراب الأكثر من الصدق , التقدم المستمر , بهذا علمنا كارل بوبر كيف تكون فلسفة العلم هي منطق قابليته المستمرة للتقدم , بحيث تكون قواعدالبحث العلمي قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية. أما العالم الذي يقرر يوماً ما أن العبارات العلمية أصبحت لا تستدعي أي اختبارات أخرى و يمكن أن نعتبرها متحققة بصورة نهائية , إنه ينسحب من المباراة. لذا فنحن لسنا في حاجة إلى منطق للتبرير والتحقق أو المواءمة , بقدر ما نحن في حاجة إلى منطق للكشف والتقدم المستمر. لاحظ بوبر أن كل فلاسفة العلم منذ جون ستيوارت مل , بل كل فلاسفة المعرفة التجريبية منذ ديفيد هيوم حتى إرنست ماخ والوضعي والأداتي على السواء , ينظرون إلى المعرفة العلمية بوصفها حقائق مثبتة مؤسسة فينشغلون بتبريرها , وصمم بوبر على إحراز الخطوة الأبعد , وأكد أنه على عكسهم جميعا لا يعنى البتة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود صدقها وصحتها , بل يعنى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها , فيصوب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد , لحظة التكذيب والتفنيد , في إطار من معالجة منطقية منهجية بالغة الدقة والإحكام , بحيث كانت النظرة البوبرية أقدر من سواها على طرح المعرفة العلمية بوصفها قابلة للاختبار البين ذاتي , أي الموضوعي , كمعرفة ديناميكية متحركة لا ثبات ولا جمود فيها. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة , التقدم المستمر, فلا تكون نظرية العلم نظرية في تبريره , بل في أسلوب هذه الصيرورة أو كيفية التقدم المستمر , الأسلوب أو الكيفية هو ما يعرف بالمنهج العلمي , ومن ثم تكون نظرية العلم أو فلسفة العلم هي نظرية المنهج العلمي , هي ذاتها منطق الكشف العلمي. أتت فلسفة بوبر رائدة قادرة على دفع فلسفة العلم إلى آفاق أبعد لأنها انطلقت من موقف الاستيعاب والاستشراف لآفاق ثورة العلم العظمى , ثورة الكم والنسبية , بعقل تحرر تماماً من رواسب المرحلة النيوتُنية الحتمية. فاستطاع بوبر أن يقدم صياغة دقيقة لمنطق الكشف العلمي في أعقد وأدق تفصيلاته , حققت استفادة بالغة من تقنيات المنطق الرياضي. ومادام بوبر يؤكد أن منطق العلم ومنهجه وجهان لعملة واحدة , كان من الطبيعي أن تنصب فلسفته الرائدة للعلم في إطار نظرية منهجية. وتتفق الأطراف المعنية على أن كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول وبغير منازع على هذه الأولوية. وفي نهايات القرن العشرين يقول واحد من علماء الفيزياءالنظرية , بتعبير بليغ حقا: (إن كارل بوبر هو المفرد العلم الذي يشار إليه بالبنان حين طرح السؤال عن المنهج العلمي). كما قال عالم الفلك الإنجليزي سير هيرمان بوندي: (إن العلم ببساطة ليس شيئا أكثر من منهجه , وليس منهجه شيئا أكثر ا قاله بوبر). هذا بخلاف علماء حصلوا على جائزة نوبل أمثال جاك مونو وبيتر مدوار وسير جون إكسلز , أكدوا على أهمية الاسترشاد بفلسفة بوبر للمنهج العلمي. وكانت نصيحتهم للعلماء الشبان أن يقرأوا ويتدبروا كتابات بوبر في فلسفة العلم , نخص منهم بالذكر سير جون إكسلز الذي وقف في حفل استلامه لجائزة نوبل في البيولوجيا يوضح القوة التحررية العظيمة التي يكتسبها ذهن العالم بفضل تمثل نظرية بوبر في المنهج العلمي , ليتخلص من فكرة محببة ثبت عقمها ويستقبل بفعالية فكرة جديدة مثمرة.المصدر
والداه يهوديان بالأصل لكنهما تحولا للديانة المسيحية، إلا أن بوبر يصف نفسه بالاأدري. درس الرياضيات، التاريخ، علم النفس، الفيزياء، الموسيقى، الفلسفة وعلوم التربية. عام 1928 حصل على درجة الدكتوراة في مجال مناهج علم النفس الإدراكي. 1930 تزوج، وبدأ كتابة أول أعماله، الذي نُشر في صورة مختصرة بعنوان "منطق البحث" 1934 وفي طبعة كاملة عام 1979 بعنوان "المشكلتان الرئيستان في النظرية المعرفية". 1937 هاجر إلى نيوزيلندا حيث قام بالتدريس في عدة جامعات هناك، وألف كتاب "المجتمع المفتوح وأعدائه" 1945، والذي اكتسب من خلاله شهرة عالمية ككاتب سياسي. أهم سمة تميز أعماله الفلسفية هي البحث عن معيار صادق للعقلانية العلمية. ما بين عامي 1949 ـ 1969 عمل أستاذاً للمنطق والمناهج العلمية بجامعة لندن. حصل في عام 1965 على لقب "سير". كتبت عنه الدكتورة يمنى طريف الخولي وهي أول من قدمه للعالم العربي
[عدل]حياته
ولد كارل بوبر لأسرة نمساوية خليقة بأن تنجب فيلسوفاً , الأب حاصل على درجة الدكتوراة وكذا أخواه , وكان أستاذاً للقانون في جامعة فينا ومحامياً , ويبدو أنه كان مثقفاً ثقافة رصينة , حتى إننا لا نجد - كما يخبر كارل بوبر نفسه - حجرة واحدة في منزله غير مكتظة بالمراجع الكبرى وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني باستثناء حجرة المعيشة كانت بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموتسارت وبيتهوڤن... وبوبر يعتز كثيرا بأنه يمتلك نسخة من طبعة القرن السابع عشر لكتاب لجاليليو ونسخة من طبعة القرن الثامن عشر لكتاب إيمانويل كانط فيلسوفه الأثير. وقد كان الأب حريصا على تنشئة ابنه , ومنذ نعومة أظفار الصبي كارل بوبر ووالده يحفزه على قراءة الكتب الفلسفية الكلاسيكية ويناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهية والجوهر. وحينما تعييه حذلقة الصبي يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة. أما عن أمه جيني ني شيف , جيني بوبر , فهي تنتمي إلى أسرة تسري في دمائها الموهبة الموسيقية. كانت هي وشقيقاتها شأن غالبية مواطني ڤيينا عاصمة الألحان وكعبة الموسيقى عازفات ماهرات على البيانو.أختها الكبرى وأبناؤها الثلاثة عازفون محترفون. وقد لعبت الموسيقى دورا كبيرا في حياة الابن بوبر , فهو أيضا عازف على البيانو , ومتذوق عميق لها , ا ساعد في صقل شخصيته وإرهاف مشاعره. ويخبرنا في تفصيلات مسهبة كيف أن الموسيقى الأوروبية البوليفونية كانت ملهمة له ببعض توجهاته الفكرية. ولم يسلم بوبر الروح إلا بعد أن حقق حلم حياته وقام بتأليف قطعة موسيقية وهو في التسعين من عمره!. وحينما شب عن الطوق ورث عن أبيه العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المهملين والأيتام , ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها عام 1919 - 1920 وهذا العام حاسم في فلسفته , ترك منزل والديه على الرغم من توسلاتهما كي يستقل بنفسه وكي لا يشكل عبئا عليهما. فقد أصبح أبوه شيخا جاوز الستين فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب , وأقام بوبر في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور , عمل بغير أجر في عيادة النفساني ألفرد آدلر , وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كتدريس أو تدريب طلبة أمريكيين أو كمساعد نجار... هذا النجار أثر كثيرا في شخصية بوبر ولكن ترك في نفسه رد فعل عكسيا عنيفا حين كان بوبر يراه دائما يؤكد أنه يعرف كل شيء وأنه على صواب ولا يخطئ أبدا. فأصبحت احتمالية الخطأ الكامنة في كل موقف هي جذع الفلسفة البوبرية. لم يكن بوبر يدخن أو يحتسي خمرا , كان يأكل قليلا ويرتدي ثيابا متواضعة. المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها آنذاك هي التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية وكانت التذاكر رخيصة لأنه كان يستمع واقفا. بخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام والموسيقى كان اهتمام بوبر الثالث في يفاعته هو الفلسفات السياسية اليسارية. أمضى إبان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسيا , لكنه انقلب بحماسة إلى الاشتراكية الديموقراطية... وأصبح في النهاية داعية مايمكن أن نسميه: ليبرالية معدلة , ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين , التي اقترنت باسم بوبر.
[عدل]تعليمه
التحق بوبر بجامعة ڤيينا العام 1918 , حضر مختلف المحاضرات: تاريخ الموسيقى والأدب وعلم النفس والفيزياء... بل حتى العلوم الطبية. وسرعان ما ترك هذا وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظرية والرياضة البحتة... إذ كان يرى تلك المحاضرات (رائعة بحق) . وفي العام 1922 قيد طالبا منتظما بالجامعة , فأمضى عام للحصول على إجازة للعمل في المدارس الابتدائية , حصل عليها إبان عمله كنجار وواصل دراساته حتى حصل على إجازة التدريس في المدارس الثانوية. ظل بوبر لآخر يوم في حياته على اعتقاد راسخ بأن تربية النشء والتعليم في كل صورها أقدس مهمة عرفتها البشرية. حصل على إجازته تلك من معهد تربوي أنشئ حديثا , وفيه تعرف بوبر على محبوبته التي أصبحت زوجته حتى آخر العمر. وما فتئ بوبر في كل موضع ينوه بفضلها وفضل حبها العظيم عليه , وبعد تخرجه استأنف دراساته حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ڤيينا العام 1922 .
[عدل]فلسفته
سارت فلسفة العلم بشكل عام في إطار منطق تبرير المعرفة العلمية على تحديد مبررات تميزها ووثوقها ومصداقيتها ونجاحها في أداء المهام المنوطة بالعلم , سواء استند هذا التبرير إلى معطيات التحقق التجريبي الاستقرائية أو إلى معايير البساطة والمواءمة الأداتية , وإن مالت كفة الطرح الأول الوضعي , في كلتا الحالين ثمة تبرير للنسق العلمي كمنجز راهن وراسخ يمكن أن يستوعب تطورات أبعد , من هنا تمثل فلسفة كارل بوبر , نقطة تحول حاسمة , مادامت فلسفة العلم قد انتقلت معها من منطق التبرير إلى منطق الكشف العلمي والمعالجة المنهجية له , على أساس من قابليته المستمرة للاختبار التجريبي والتكذيب , لتعيين الخطأ كي يحل محله يوما ما كشف أفضل وأكفأ وأقرب إلى الصدق , وسوف نرى أن الكشف علمي بقدر ما يكون قابلا للتكذيب , بقدر ما يفتح طريقا إلى تقدم أبعد. فليس منطق الكشف العلمي منطق لبنة جديدة تضاف إلى صرح العلم , بقدر ما هو منطق فتح جديد للتقدم العلمي , إنه فلسفة التقدم المستمر , وكان لهذا تأثيره الكبير في التطورات اللاحقة للوضعية المنطقية والأداتية ذواتيهما. تستند فلسفة بوبر بأسرها إلى أن الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي هي إمكان تكذيب عباراته , هي قابليته المستمرة للمواجهة مع الواقع والوقائع , للنقد والمراجعة واكتشاف الأخطاء وبالتالي التصويب والاقتراب الأكثر من الصدق , التقدم المستمر , بهذا علمنا كارل بوبر كيف تكون فلسفة العلم هي منطق قابليته المستمرة للتقدم , بحيث تكون قواعدالبحث العلمي قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية. أما العالم الذي يقرر يوماً ما أن العبارات العلمية أصبحت لا تستدعي أي اختبارات أخرى و يمكن أن نعتبرها متحققة بصورة نهائية , إنه ينسحب من المباراة. لذا فنحن لسنا في حاجة إلى منطق للتبرير والتحقق أو المواءمة , بقدر ما نحن في حاجة إلى منطق للكشف والتقدم المستمر. لاحظ بوبر أن كل فلاسفة العلم منذ جون ستيوارت مل , بل كل فلاسفة المعرفة التجريبية منذ ديفيد هيوم حتى إرنست ماخ والوضعي والأداتي على السواء , ينظرون إلى المعرفة العلمية بوصفها حقائق مثبتة مؤسسة فينشغلون بتبريرها , وصمم بوبر على إحراز الخطوة الأبعد , وأكد أنه على عكسهم جميعا لا يعنى البتة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود صدقها وصحتها , بل يعنى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها , فيصوب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد , لحظة التكذيب والتفنيد , في إطار من معالجة منطقية منهجية بالغة الدقة والإحكام , بحيث كانت النظرة البوبرية أقدر من سواها على طرح المعرفة العلمية بوصفها قابلة للاختبار البين ذاتي , أي الموضوعي , كمعرفة ديناميكية متحركة لا ثبات ولا جمود فيها. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة , التقدم المستمر, فلا تكون نظرية العلم نظرية في تبريره , بل في أسلوب هذه الصيرورة أو كيفية التقدم المستمر , الأسلوب أو الكيفية هو ما يعرف بالمنهج العلمي , ومن ثم تكون نظرية العلم أو فلسفة العلم هي نظرية المنهج العلمي , هي ذاتها منطق الكشف العلمي. أتت فلسفة بوبر رائدة قادرة على دفع فلسفة العلم إلى آفاق أبعد لأنها انطلقت من موقف الاستيعاب والاستشراف لآفاق ثورة العلم العظمى , ثورة الكم والنسبية , بعقل تحرر تماماً من رواسب المرحلة النيوتُنية الحتمية. فاستطاع بوبر أن يقدم صياغة دقيقة لمنطق الكشف العلمي في أعقد وأدق تفصيلاته , حققت استفادة بالغة من تقنيات المنطق الرياضي. ومادام بوبر يؤكد أن منطق العلم ومنهجه وجهان لعملة واحدة , كان من الطبيعي أن تنصب فلسفته الرائدة للعلم في إطار نظرية منهجية. وتتفق الأطراف المعنية على أن كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول وبغير منازع على هذه الأولوية. وفي نهايات القرن العشرين يقول واحد من علماء الفيزياءالنظرية , بتعبير بليغ حقا: (إن كارل بوبر هو المفرد العلم الذي يشار إليه بالبنان حين طرح السؤال عن المنهج العلمي). كما قال عالم الفلك الإنجليزي سير هيرمان بوندي: (إن العلم ببساطة ليس شيئا أكثر من منهجه , وليس منهجه شيئا أكثر ا قاله بوبر). هذا بخلاف علماء حصلوا على جائزة نوبل أمثال جاك مونو وبيتر مدوار وسير جون إكسلز , أكدوا على أهمية الاسترشاد بفلسفة بوبر للمنهج العلمي. وكانت نصيحتهم للعلماء الشبان أن يقرأوا ويتدبروا كتابات بوبر في فلسفة العلم , نخص منهم بالذكر سير جون إكسلز الذي وقف في حفل استلامه لجائزة نوبل في البيولوجيا يوضح القوة التحررية العظيمة التي يكتسبها ذهن العالم بفضل تمثل نظرية بوبر في المنهج العلمي , ليتخلص من فكرة محببة ثبت عقمها ويستقبل بفعالية فكرة جديدة مثمرة.المصدر